من الظل إلى النور..
ذ.
توفيق بخوت
عشنا معا أسبوعا يحبس الأنفاس جراء
الأحداث المرتبطة بالهجمات الدموية
الأخيرة على شارلي وأماكن متفرقة في فرنسا. عشنا لحظات الأسف على الضحايا.. عشنا
لحظات الغضب على المتاجرين بدم الضحايا والمصرين على النيل من ديننا ورسوله
الكريم.. عشنا الترقب والتوجس من ردود الأفعال الانتقامية والعقابية فرديا
ومؤسساتيا في حق كل من يُشْتَم فيه ولو رائحة بقية من إسلام!.. عشنا ورأينا وفكرنا
وخرجنا بعدة خلاصات عاطفية وعقلانية، يمتزج فيها الوعي الفردي والجمعي، العاطفي
والعقلاني، الديني بالعلماني، بل الشيء باللاشيء بما أننا نعيش زمن المتاهة
واختلاط المفاهيم، إرضاء لأنفسنا وإرضاء للغير حتى لا نظهر بمظهر غير المتحضرين!...
ومع هدوء العاصفة الإعلامية وتراجع
هيمنة الأخبار المتعلقة بـ"شارلي وأخواتها"، ليلتفت العالم إلى باقي
مصالحه وهمومه، تنجلي سحابة الحزن والغضب عن حقائق لا تحجبها العناوين العريضة
والتعاليق الحارقة. فمقام النبي عليه الصلاة والسلام أسمى وأرفع من أن تنال منه
رسوم لاأخلاقية لحفنة من المرضى
النفسانيين الذين يختفون وراء الإلحاد وحرية التعبير والسخرية للتنفيس عن
"عاهات" و"عوائق" وُجُودية وإدراكية، لو عاملناهم على أساسها
باللامبالاة والإشفاق ولما لا النصيحة بزيارة أقرب مصحة عقلية، لصاروا كاريكاتيرات
حية أقرب إلى ذلك "الدون كيشوت الذي يقضي سحابة يومه في محاربة طواحين
الهواء! أو حتى إصدار جريدة ساخرة في فرنسا باسم "شياطين شارلي" تصور
طاقم تحرير الجريدة المستفزة (التي كانت إلى حدود يوم الثلاثاء الماضي تحتضر
ماديا) عرايا يرسمون في "مؤخرات" بعضهم البعض مثلا، بما أنهم مولعون
بتتبع "السوءات" إلى حد المرض، من رئيس التحرير الذي بكى على صدر هولاند
إلى آخر العنقود زينب الغزوي التي طارت إلى فرنسا للمساعدة في وضع مزيد من الحطب
على النار المشتعلة! وبالتالي نقول أن حرية التعبير مكفولة للجميع وأنهم ليسوا
بأحسن من رئيس فرنسا والبابا الذين صوروهما ببشاعة.. وليطمئن الجميع فليس هناك
قانون صارم في فرنسا لـ"معاداة شارلي" سوى نظيره المسلط على الرقاب
الخاص بـ"السامية".
أيضا من بين كل تلك "الجعجعة" الإسلاموفوبية التي امتطت صهوة
"الإرهاب العربي"، خالفت عدة منابر إعلامية رصينة موجة "أنا
شارلي" التضليلية أكثر منها تضامنية. ونقصد بها البريطانية والأمريكية، وذلك
عن تفكير سديد أو مُهادنة مرحلية مصلحية.. فحين تخرج صحيفة التايمز بالبنط العريض:
"فرنسا تدفع ثمن تهميش 6 ملايين مسلم" الذي سمح بصعود نجم ما تسميه
بالإسلام الراديكالي الذي دق بعمليته الدموية الأخيرة إِسْفِين القطيعة والكراهية
بين ما تسميهم سكان فرنسا الأصليين والمهاجرين، فيجب أن ننتبه في المقابل إلى أن الإشارة
إلى فشل فرنسا في دمج المهاجرين تخص فقط المسلمين مغاربيي الأصل ذوو القابلية
الأكثر للتطرف، وأن هناك من يلعب بها سياسيا واقتصاديا ليس فقط كـ"ورقة
الكراهية" المعروفة بل وأيضا "ورقة الخوف" إن لم نقل
"التخويف". وإذا ما قسنا هذه الأخيرة على عنوان البي بي سي وتحاليل
منابر فرنسية من قبيل: "هل تزيد هجمات باريس من هجرة يهود فرنسا إلى
اسرائيل؟"، ينكشف وجه آخر من أوجه حسن استغلال الأحداث بتأكيد الوكالة
اليهودية عن تزايد هجرة يهود فرنسا إلى أرض الميعاد التي تعيش هاجس ارتفاع
الولادات والخصوبة في القطاع وغزة مقارنة بها...
وأخيرا لا بد أن نتوقف عند "حقوق الإنسان" المقدس الآخر
الذي خلف مثيله "حرية التعبير" للأسبوع الماضي. إذ تناولته الصحف
البريطانية بهمة هذا الأسبوع عبر مقال الغارديان المشتعل بسبب جلد مدون رأي سعودي
واصفة إياه بالعمل البربري.. مع أن نفس العدد يحتوي على خبر ممرض ألماني
اعترف بقتل 30 من مرضاه على سبيل استعراض مهاراته في توقيف قلوبهم عبر الحقن
ومحاولة إعادتها إلى الحياة من جديد، فيما يشبه عملية مجنونة للتسلية، دون أن تنعت
الجريدة المتنورة هذا العمل بالوحشي والقتل الجماعي! وشرح الواضحات في هذا المقام
يعد من المفضحات.
المهم أن الصدمة قد أفسحت المجال الآن لعمليات مداهمات واعتقالات مكثفة
بالجملة في أوروبا، نأمل أن أن تكون قانونية ومبنية على ردع أفعال إجرامية لكي لا
تتحول إلى مطاردة قروسطية للساحرات، لمجرد الاشتباه أو الالتزام بالتدين. وأن تكون
كلمات هولاند المطمئنة حقيقية وليست خادعة مثل "سايكس بيكو"، حين يقول:
"المسلمون هم الضحية الأولى للتطرف" و"فرنسا ستحمي كل الأديان"،
ومعه المرجع الأعلى للكاثوليكية البابا فرانسيس الذي صرح بأن الاستفزاز بالتمادي
في إهانة معتقدات الآخرين فعل خطأ لابد أن يُتوقع منه نشوء رد فعل عنيف، ولو بلكمة
(لو أهنت أحدا في أمه مثلا).. وهاهو اجتماع العظماء بقيادة أوباما مع كاميرون
وآخرين يعيد إلى الأذهان حادثة 11 شتنبر وقرار اجتياح العراق الذي اتخذه بوش
ببلادة شديدة يؤدي ثمنها العالم بأسره اليوم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق